الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
والحاصل أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد؛ لما فيه من التسوية بين المتماثلين عنده ـ وإن استلزم ذلك كثرة مخالفة النصوص ـ وهذا موجود في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الإرادية تجد المتكلم قد يطرد قياسه طردًا مستمرًا فيكون في ظاهر الأمر أجود ممن نقضها، وتجد المستن الذي شاركه في ذلك القياس قد يقول ما يناقض ذلك القياس في مواضع، مع استشعار التناقض تارة، وبدون استشعاره تارة، وهو الأغلب. وربما يخيل بفروق ضعيفة فهو في نقض علته والتفريق بين المتماثلين فيها، يظهر أنه دون الأول في العلم والخبرة وطرد القول، وليس كذلك، بل هو خير من الأول. فإن ذلك القياس الذي اشتركا فيه كان فاسدًا في أصله؛ لمخالفة النص والقياس الصحيح، فالذي طرده أكثر فسادًا وتناقضًا من هذا الذي نقضه. وهذا شأن كل من وافق غيره على قياس ليس هو في نفس الأمر بحق، وكان أحدهما من النصوص في مواضع ما يخالف ذلك القياس، وهذا يسميه الفقهاء في مواضع كثيرة: الاستحسان. فتجد القائلين بالاستحسان، الذي تركوا فيه القياس لنص خيرًا من الذين طردوا القياس وتركوا النص. ولهذا يروى عن أبي حنيفة، أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زُفَر، فإنكم إن أخذتم بمقاييسه حرمتم الحلال وحللتم الحرام، فإن زفر كان كثير الطرد، لما يظنه من القياس مع قلة علمه بالنصوص. وكان أبو يوسف نظره بالعكس، كان أعلم بالحديث منه؛ ولهذا توجد المسائل التي يخالف فيها زفر أصحابه عامتها قياسية، ولا يكون إلا قياسًا ضعيفًا عند التأمل، وتوجد المسائل التي يخالف فيها أبو يوسف أبا حنيفة واتبعه محمد عليها، عامتها اتبع فيها النصوص والأقيسة الصحيحة؛ لأن أبا يوسف رحل بعد موت أبي حنيفة إلى الحجاز، واستفاد من علم السنن التي كانت عندهم ما لم تكن مشهورة بالكوفة، وكان يقول: لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت؛ لعلمه بأن صاحبه ما كان يقصد إلا اتباع الشريعة، لكن قد يكون عند غيره من علم السنن ما لم يبلغه. وهذا ـ أيضًا ـ حال كثير من الفقهاء ـ بعضهم مع بعض ـ فيما وافقوا عليه من قياس لم تثبت صحته بالأدلة المعتمدة، فإن الموافقة فيه توجب طرده، ثم أهل النصوص قد ينقضونه، والذين لا يعلمون النصوص يطردونه. وكذلك هذه حال أكثر متكلمة أهل الإثبات مع متكلمة النفاة في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك، قد يوافقونهم على قياس فيه نفي، ثم يطرده أولئك فينفون به ما أثبتته النصوص، والمثبتة لا تفعل ذلك، بل لابد من القول بموجب النص، فربما قالوا ببعض معناها، وربما فرقوا بفرق ضعيف. وأصل ذلك: موافقة أولئك على القياس الضعيف، وذلك في مثل مسائل الجسم والجوهر وغير ذلك. وهكذا تجد هذا حال من أعان ظالمًا في الأفعال، فإن الأفعال لا تقع إلا عن إرادة، فالظالم يطرد إرادته فيصيب من أعانه، أو يصيب ظلمًا لا يختاره هذا، فيريد المعين أن ينقض الطرد، ويخص علته؛ ولهذا يقال: من أعان ظالمًا بُلى به، وهذا عام في جميع الظلمة من أهل الأقوال والأعمال، وأهل البدع والفجور. وكل من خالف الكتاب والسنة: من خبر أو أمر أو عمل، فهو ظالم. فإن الله أرسل رسله؛ ليقوم الناس بالقسط، ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم، وقد بين الله ـ سبحانه ـ له من القسط ما لم يبينه لغيره، وأقدره على ما لم يقدر عليه غيره، فصار يفعل ويأمر بما لا يأمر به غيره ويفعله. وذلك أن بني آدم في كثير من المواضع قد لا يعلمون حقيقة القسط ولا يقدرون على فعله، بل ما كان إليه أقرب وبه أشبه كان أمثل، وهي الطريقة المثلى. وقد بسطنا هذا في مواضع، قال تعالى: والمقصود أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم ـ أهل السنة والجماعة ـ من المعرفة واليقين والطمأنينة، والجزم الحق والقول الثابت، والقطع بما هم عليه أمر لا ينازع فيه إلا من سلبه الله العقل والدين. وهب أن المخالف لا يسلم ذلك، فلا ريب أنهم يخبرون عن أنفسهم بذلك، ويقولون: إنهم يجدون ذلك، وهو وطائفته يخبرون بضد ذلك، ولا يجدون عندهم إلا الريب. فأي الطائفتين أحق بأن يكون كلامها موصوفًا بالحشو؟ أو يكون أولى بالجهل والضلال، والإفك والمحال؟ وكلام المشائخ والأئمة من أهل السنة والفقه والمعرفة في هذا الباب أعظم من أن نطيل به الخطاب. الوجه الثاني: أنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزمًا بالقول في موضع، وجزمًا بنقيضه، وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه[قيصر] لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سُخْطَة له، بعد أن يدخل فيه ؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد، ولهذا قال بعض السلف ـ عمر بن عبد العزيز أو غيره ـ: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل. وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم، رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرًا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك ـ رحمه الله ـ يقول: لا تغبطوا أحدًا لم يصبه في هذا الأمر بلاء. يقول: إن الله لابد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته، كما قال تعالى: ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لابد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوافق عليه أهل السنة والحديث، ما يوجب قبولها؛ إذ الباطل المحض لا يقبل بحال. وبالجملة، فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة، بل المتفلسف أعظم اضطرابًا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل: أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل: ابن سينا وأمثاله. وأيضا، تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقًا واختلافًا، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان. وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلافًا، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب، فالمعتزلة أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات، بل وفي الطبيعيات والرياضيات، وصفات الأفلاك، من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال. وقد ذكر من جمع مقالات الأوائل، مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ومثل القاضي أبي بكر في كتاب [الدقائق] من مقالاتهم، بقدر ما يذكره الفارابي، وابن سينا، وأمثالهما أضعافًا مضاعفة. وأهل الإثبات من المتكلمين ـ مثل الكلابية والكرامية والأشعرية ـ أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المعتزلة، فإن في المعتزلة من الاختلافات وتكفير بعضهم بعضًا، حتى ليكفر التلميذ أستاذه، من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صَنَّف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه، ولست تجد اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث، وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه، قال تعالى: ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء، كانوا أعظم اختلافًا، و الخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا ـ أيضًا ـ أبعد عن السنة والحديث، كانوا أعظم افتراقًا في هذه، لاسيما الرافضة، فإنه يقال: إنهم أعظم الطوائف اختلافًا؛ وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة، بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم. وأبو محمد بن قتيبة ـ في أول كتاب مختلف الحديث ـ لما ذكر أهل الحديث وأئمتهم، وأهل الكلام وأئمتهم، قفى بذكر أئمة هؤلاء ووصف أقوالهم وأعمالهم، ووصف أئمة هؤلاء، وأقوالهم وأفعالهم بما يبين لكل أحد أن أهل الحديث هم أهل الحق والهدى، وأن غيرهم أولى بالضلال والجهل والحشو والباطل . وأيضًا، المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان، ففيهم من ترك الواجبات، واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب، ما هو ظاهر لكل أحد، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم، وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة، ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه. ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع، والرجل لا يصدر عنه فساد العمل إلا لشيئين؛ إما الحاجة، وإما الجهل، فأما العالم بقبح الشيء الغني عنه فلا يفعله، اللهم إلا من غلب هواه عقله واستولت عليه المعاصي، فذاك لون آخر وضرب ثان. وأيضاً، فإنه لا يعرف من أهل الكلام أحد إلا وله في الإسلام مقالة يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه، وفي التعميم ما يغني عن التعيين، فأي فريق أحق بالحشو والضلال من هؤلاء؟ وذلك يقتضي وجود الردة فيهم، كما يوجد النفاق فيهم كثيرًا. وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك. ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام، فقد حكى عن الجهم بن صفوان: أنه ترك الصلاة أربعين يومًا لا يرى وجوبها، كرؤساء العشائر مثل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ودخل فيه، ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك. أو يقال: هم لما فيهم من العلم يشبهون بعبد الله بن أبي سرح، الذي كان كاتب الوحي، فارتد ولحق بالمشركين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عام الفتح، ثم أتى به عثمان إليه فبايعه على الإسلام. فمن صنف في مذهب المشركين ونحوهم، أحسن أحواله: أن يكون مسلمًا، فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا، تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق، والحكايات عنهم بذلك مشهورة، وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفًا في أول [مختلف الحديث]، وقد حكى أهل المقالات لبعضهم عن بعض من ذلك طرفًا، كما يذكره أبو عيسى الوراق والنوبختي وأبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبوعبد الله الشهرستاني، وغيرهم، ممن يذكر مقالات أهل الكلام. وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام. ومن العجب، أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل. وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم. فيقال لهم: ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ [النظر والاستدلال] ولفظ [الكلام]، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال. وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه [أصول الدين]، وهذا اسم عظيم، والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم. فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك، قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين. وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين، وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بين أصوله وفروعه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله، كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع، فهكذا لفظ النظر، والاعتبار، والاستدلال. وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة،كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة، وقال مالك: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق. وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم، الذي يوصل العباد إلى الله. والرسول هو الدليل الهادي الخِرِّيت-[الخِرِّيت: الدليل الحاذق]- في هذا الصراط، كما قال تعالى: وإذا تأمل العاقل ـ الذي يرجو لقاء الله ـ هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب، وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم ،الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لاسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزانًا للحديث، فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحًا بتقديمه في الشريعة المحمدية، فيكون من السبيل المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله. وهؤلاء الاتحادية وأمثالهم، إنما أتوا من قلة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميز بها عن المخلوقات، وقلة اتباع السنة وطريقة السلف في ذلك، بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة، تلقيًا لذلك عن متفلسف أو متكلم، فيكون ذلك الاعتقاد صادًا لهم عن سبيل الله، كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها، وتسلك الصراط المستقيم إليه، وتعبده ـ كما فطروا عليه، وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته ـ صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك، حتى تجد خلقًا من مقلدة الجهمية يوافقهم بلسانه، وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة، وأكثرهم لا يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم، بل يجعلونه تنزيهًا مطلقًا مجملاً. ومنهم من لا يفهم قول الجهمية. بل يفهم من النفي معنى صحيحًا، ويعتقد أن المثبت يثبت نقيض ذلك، ويسمع من بعض الناس ذكر ذلك. مثل أن يفهم من قولهم: ليس في جهة، ولا له مكان، ولا هو في السماء، أنه ليس في جوف السموات، وهذا معنى صحيح، وإيمانه بذلك حق، ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك، وليس كذلك، بل مرادهم: أنه ما فوق العرش شيء أصلاً، ولا فوق السموات إلا عدم محض، ليس هناك إله يعبد، ولا رب يدعى ويسأل، ولا خالق خلق الخلائق، ولا عُرج بالنبي إلى ربه أصلا، هذا مقصودهم. وهذا هو الذي أوقع الاتحادية في قولهم: هو نفس الموجودات؛ إذ لم تجد قلوبهم موجودًا إلا هذه الموجودات، إذا لم يكن فوقها شيء آخر، وهذا من المعارف الفطرية الشهودية الوجودية: أنه ليس إلا هذا الوجود المخلوق، أو وجود آخر مباين له متميز عنه، لاسيما إذا علموا أن الأفلاك مستديرة وأن الأعلى هو المحيط؛ فإنهم يعلمون أنه ليس إلا هذا الوجود المخلوق، أو موجود فوقه. فإذا اعتقدوا مع ذلك أنه ليس هناك وجود آخر ولا فوق العالم شيء، لزم أن يقولوا: هو هذا الوجود المخلوق، كما قال الاتحادية. وهذه بعينها هي حجة الاتحادية. وهذا بعينه هو مشرب قدماء الجهمية وحدثائهم كما يقولون: هو في كل مكان، وليس هو في مكان. ولايختص بشيء، يجمعون دائمًا بين القولين المتناقضين؛ لأنهم يريدون إثبات موجود، وليس عندهم شيء فوق العالم، فتعين أن يكون هو العالم أو يكون فيه. ثم يريدون إثبات شيء غير المخلوق، فيقولون: ليس هو في العالم كما ليس خارجًا عنه، أو يقولون: هو وجود المخلوقات دون أعيانها، أو يقولون: هو الوجود المطلق فيثبتونه فيما يثبتون؛ إذ كانت قلوبهم متشابهة في النفي والتعطيل، وهو إنكار موجود حقيقي مباين للمخلوقات عالٍ عليها. وإنما يفترقون فيما يثبتونه، ويكرهون فطرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض، فيقولون: هو في العالم، وليس هو فيه، أو هو العالم وليس إياه، أو يغلبون الإثبات فيقولون: بل هو نفس الوجود، أو النفي، فيقولون: ليس في العالم ولا خارجًا عنه، أو يدينون بالإثبات في حال وبالنفي في حال، إذا غلب على أحدهم عقله غلب النفي، وهو أنه ليس في العالم، وإذا غلب عليه الوجْد والعبادة رجح الإثبات وهو أنه في هذا الوجود أو هو هو، لا تجد جهميًا إلا على أحد هذه الوجوه الأربعة، وإن تنوعوا فيما يثبتونه ـ كما ذكرته لك ـ فهم مشتركون في التعطيل . وقد رأيت منهم ومن كتبهم، وسمعت منهم وممن يخبر عنهم من ذلك ما شاء الله، وكلهم على هذه الأحوال ضالون عن معبودهم وإلههم وخالقهم. ثم رأيت كلام السلف والأئمة كلهم يصفونهم بمثل ذلك. فمَنَّ الله علينا باتباع سبيل المؤمنين وآمنا بالله وبرسوله، وكل هؤلاء يجد نفسه مضطربة في هذا الاعتقاد؛ لتناقضه في نفسه، وإنما يسكن بعض اضطرابه نوع تقليد لمعظم عنده، أو خوفه من مخالفة أصحابه، أو زعمه أن هذا من حكم الوهم والخيال دون العقل. وهذا التناقض في إثبات هذا الموجود الذي ليس بخارج عن العالم ولا هو العالم، الذي ترده فطرهم وشهودهم وعقولهم، غير ما في الفطرة من الإقرار بصانع فوق العالم، فإن هذا إقرار الفطرة بالحق المعروف، وذاك إنكار الفطرة بالباطل المنكر. ومن هذا الباب: ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة: أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مرة، والأستاذ أبو المعالي يذكر على المنبر: كان الله ولا عرش، ونفى الاستواء ـ على ما عرف من قوله، وإن كان في آخر عمره رجع عن هذه العقيدة، ومات على دين أمه وعجائز نيسابور ـ قال: فقال الشيخ أبو جعفر: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش ـ يعني: لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا: ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ فصرخ أبو المعالي، ووضع يده على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، أو كما قال، ونزل. فهذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم، فأخبر أن العرش والعلم باستواء الله عليه، إنما أخذ من جهة الشرع وخبر الكتاب والسنة، بخلاف الإقرار بعلو الله على الخلق من غير تعيين عرش ولا استواء، فإن هذا أمر فطري ضروري نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو الله ـ تعالى ـ فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا ؟! والجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟) قالت: في السماء. قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ،جارية أعجمية، أرأيت من فقَّهها وأخبرها بما ذكرته؟ وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله ـ تعالى ـ عليها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وشهد لها بالإيمان. فليتأمل العاقل ذلك يجده هاديًا له على معرفة ربه، والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون والمتشدقون ممن سول لهم الشيطان وأملى لهم. ومن أمثلة ذلك: أن الذين لبسوا الكلام بالفلسفة ـ من أكابر المتكلمين ـ تجدهم يعدون من الأسرار المصونة والعلوم المخزونة، ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين، وجد فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلاء، حتى قد يكذب بصدور ذلك عنهم، مثل تفسير حديث المعراج الذي ألفه [أبوعبد الله الرازي]، الذي احتذى فيه حذو ابن سينا، و[عين القضاة الهمداني]، فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل وأسماء عجيبة، وترتيب لا يوجد في شيء من كتب المسلمين، لا في الأحاديث الصحيحة ولا الحسنة، ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم، وإنما وضعه بعض السؤال والطرقية، أو بعض شياطين الوعاظ أو بعض الزنادقة. ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج ـ الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة، وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى ما لم يسمع من عالم، ولا يوجد في أثارة من علم ـ فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين، وجعل معراج الرسول ترقيه بفكره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب، فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق، ثم إنه يعظم ذلك ويجعله من الأسرار والمعارف التي يجب صونها عن أفهام المؤمنين، وعلمائهم، حتى إن طائفة ممن كانوا يعظمونه لما رأوا ذلك تعجبوا منه غاية التعجب، وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك، حتى أروه النسخة بخط بعض المشائخ المعروفين الخبيرين بحاله، وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه:[المطالب العالية]، وجمع فيه عامة آراء الفلاسفة والمتكلمين. وتجد أبا حامد الغزالي ـ مع أن له من العلم بالفقه والتصوف والكلام والأصول وغير ذلك، مع الزهد والعبادة وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك ـ يذكر في كتاب[الأربعين] ونحوه، كتابه:[المضنون به على غير أهله]، فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق وغاية المطالب، وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم، ومن لم يعلم حقائق مقالات العباد ومقالات أهل الملل، يعتقد أن ذاك هو السر الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي. فإن أبا حامد كثيرًا ما يحيل في كتبه على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد، برياضتهم وديانتهم من إدراك الحقائق وكشفها لهم، حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع. وسبب ذلك أنه كان قد علم بذكائه وصدق طلبه، ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب وآتاه الله إيمانًا مجملاً ـ كما أخبر به عن نفسه ـ وصار يتشوف إلى تفصيل الجملة، فيجد في كلام المشائخ والصوفية ما هو أقرب إلى الحق، وأولى بالتحقيق من كلام الفلاسفة والمتكلمين، والأمر كما وجده، لكن لم يبلغه من الميراث النبوي الذي عنـد خاصة الأمة من العلوم والأحوال، وما وصل إليه السابقون الأولون من العلم والعبادة، حتى نالوا من المكاشفات العلمية والمعاملات العبادية ما لم ينله أولئك. فصار يعتقد أن تفصيل تلك الجملة يحصل بمجرد تلك الطريق، حيث لم يكن عنده طريق غيرها، لانسداد الطريقة الخاصة السنية النبوية عنه بما كان عنده من قلة العلم بها، ومن الشبهات التي تقلدها عن المتفلسفة والمتكلمين، حتى حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة. ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل ولطريقة العلم، وإنما ذاك لعلمه الذي سلكه، والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلم، وإنما هو عقائد فلسفية وكلامية، كما قال السلف: العلم بالكلام هو الجهل، وكما قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق. ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه، حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلام ـ فيما علقه عنه ـ ينكر أن يكون [بداية الهداية] من تصنيفه، ويقول: إنما هو تقول عليه، مع أن هذه الكتب مقبولها أضعاف مردودها، والمردود منها أمور مجملة، وليس فيها عقائد، ولا أصول الدين. وأما المضنون به على غير أهله، فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه، وأما أهل الخبرة به وبحاله، فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضًا، ولكن كان هو وأمثاله ـ كما قدمت ـ مضطربين لا يثبتون على قول ثابت؛ لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن ـ كما قدمناه ـ وأهل الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.
|